
الزرنة الجزائرية… آلة النفخ التي لا يصمت صداها
خليدة زغلامي
تتميز الأعراس الجزائرية بعادات و تقاليد جميلة تضرب جذورها عبر تاريخها العريق، و تعد فرقة “الزرنة” أو “الزرناجية” كما يفضل البعض تسميتها من أساسيات الأعراس وكذلك جميع المناسبات السعيدة، فلا يكاد يخلو أي عرس من وجود الزرنة، وعادة ما يرتبط وجودها بخروج العروس من بيت أهلها إلى بيت زوجها، أين تدخل العروس إلى قاعة الحفلات على موسيقاها.
حيث أخذت “الزرنة” عقول الجزائريين وجعلتهم يطلقون شعرا ويتداولون أقوالا، مثل “من لم تعزف الزرنة تحت شرفتها وهي تخرج عروسا من بيت أهلها لا تزال بكرا”، و”العرس للأهل والزرنة للجميع”، و”الزرنة هدية الجيران والناس”، و”الزرنة تبطل العين والحسد عن العرسان لأنها تلهي الجميع عن التركيز معهما والانشغال مع الفرقة”، وغيرها مما قيل عن هذه الموسيقى والفرقة.
ــ فمن قلب الأعراس والمواسم الشعبية، تصدح نغمة الزرنة ذلك الصوت العميق الجوهري الذي يشق الفضاء ويوقظ الذاكرة الجماعية، و بين أنامل العازفين تحولت هذه الآلة التقليدية إلى رمز من رموز الفرح والمقاومة والتراث، بحيث لا تكتمل الأجواء دون عزف الزرنة المصحوبة عادة بـ”الطبل” أو “البندير”، وتلعب هذه الآلة دورا اجتماعيا كبيرا في إحياء المناسبات، إذ ينظر إليها كجسر بين الأجيال ووسيلة لنقل القيم والقصص من الماضي، وفي تصريح لأحد العازفين التقليديين يقول: “الزرنة ليس آلة فقط، هي حكاية جدودنا… مضيفا: “تعلمتها من والدي وهو من جدي، ولم تكن عبارة عن نوتات ولا أوراق بل سمع وحفظ، مؤكدا أن أكبر فرحة بالنسبة له عندما يرى الناس ترقص و تغني… وقتها يدرك أن الزرنة وصلت للقلب”.
أصل الزرنة وجذورها التاريخية
الزرنة آلة نفخ خشبية، تتشابه في تركيبتها مع بعض الآلات الشرقية مثل “الشاهناي” و”الُمر”، إلا أن الجزائر أضفت عليها طابعا خاصا، يتبدى في أسلوب العزف، والزخارف المصاحبة لها وحتى في طقوس استخدامها.
حيث يرجح معظم الباحثين أن تاريخ ظهور “الزرنة” في الجزائر يعود إلى العهد العثماني، فكانت ذات طابع رسمي مخصص فقط للدايات و الملوك والطبقة البرجوازية في أوقات معينة، لتصبح فيما بعد ذات طابع اجتماعي ترافق جميع أفراد المجتمع بدون استثناء، كما أنها صمدت منذ عشرات السنين لأن العائلات الجزائرية العريقة حرصت على توريثها و تعليمها جيلا بعد جيل، ويعتبر الفنان “منصور بوعلام” المعروف “ببوعلام تيتيش” المولود سنة 1908 مؤسس فرقة الزرنة في الجزائر العاصمة.
ــ و لعل ما يميز فرقة الزرنة اللباس التقليدي الذي يرتديه كل أعضاء الفرقة و الممتدة جذوره إلى تاريخ مدينة الجزائر العريقة، و المتمثل في “السترة المطرزة” بخيوط ذهبية و “سروال التستيفة أو المدور”، و أيضا “شاشية إسطنبولي” وهو طربوش أحمر اللون، بالإضافة إلى “البابوش”، كما تعتمد الفرقة على آلات موسيقية تقليدية كالطبل المصنوع من جلد الماعز، والمزمار و البندير و غيرها، وعادة ما يتجاوب الحضور مع هذه الوصلات الموسيقية و تدفعهم للرقص و التفاعل، حيث يجد الجميع نفسه معنيا بالرقص بمجرد ما ينفخ “الزرناجي” أول مقطع من الأغاني الشعبية المستمدة من التراث الجزائري تتخللها زغاريد النسوة التي تطلقها من شرفات المنازل.
الزرنة.. طقس شعبي لا مجرد موسيقى في الجزائر
لا يمكن تخيل عرس تقليدي أو طهور، أو حتى موكب استقبال بدون زرنة، وهي دائما ما ترافق الطبل الكبير المعروف بـ”البندير” أو “الطار”، لتشكل ما يعرف محليا بـ”الفرقة الفلكلورية“.
حيث تختلف نغمات الزرنة من منطقة لأخرى: ففي الشرق الجزائري مثلاً، تتميز بنغمة أكثر حدة وترافقها رقصات “العلاوي”، أما في الجنوب فتكون الزرنة أبطأ وتستخدم في المناسبات الدينية والروحية، مثل المولد النبوي، ويقول أحد عازفي فرق الزرنة لسياحي: “نحن نعتبر الزرنة جزءا من الهوية الثقافية الجزائرية، في زمن يغزو فيه الفن الحديث حياتنا، ما زالت الزرنة تحافظ على مكانتها، خصوصا في المناطق الداخلية والجنوب، ” وأضاف: “نطالب بتوثيق هذا التراث رسميا، وتصنيفه كتراث غير مادي لدى اليونسكو، لأنها ليست مجرد آلة، بل ثقافة كاملة: من طريقة صنعها، إلى لباس العازف، إلى السياق الاجتماعي للعزف.”
ــ الجدير بالذكر أن الزرنة برزت كرمز قوي للفن الجزائري، وتحدث بعض السياح عن انبهارهم بهذه الآلة التي تدمج البساطة بالقوة، وتعكس روح الجماعة والتقاليد، و بالتالي تعد الزرنة صوت لا يجب أن يسكت، كونها ليست مجرد آلة قديمة تنتمي إلى الماضي، إنما هي صوت الماضي الذي لا يزال يخاطب الحاضر، وحكاية أمة لا تفرّط في تراثها، حتى وسط صخب التكنولوجيا والموسيقى الإلكترونية، فإحياؤها ليس خيارًا فنّيًا، بل واجبٌ ثقافي، لأن من يفقد صوته، يفقد جزءًا من كيانه.